فصل: فَصْل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها:

قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها».
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته. فإنها تتضمن أصلين عظيمين- إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته- أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقةً.
وقد جعله عند العبد عاريةً فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير وأيضًا فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير. وأيضًا فإنه ليس هو الذي أوجده من عدمه حتى يكون ملكه حقيقة؛ ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقى عليه وجوده.
فليس له في تأثير ولا ملك حقيقي. وأيضًا فإنه متصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك. ولهذا لا يباح من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
وقال ابن سرين: ما كان ضحكٌ قط، إلا كان من بعده بكاءٌ.
وقالت هند بنت النعمان: لقد رأينا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتُنَا ونحن أقل الناس، وإنه حقٌ على الله أن لا يملأ دارًا خيرةً إلا ملأها عبرةً.
وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت: أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا.
وبكت أختها حرقة بنت النعمان يومًا- وهي في عزها- فقيل لها: ما يبكيك؟ لعل أحد آذاك؟ قالت: لا؛ ولكن رأيت غضارة في أهلي، وقلما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا.
قال إسحاق بن طلحة: دخلت عليها يومًا فقلت لها: كيف رأيت عبرات الملوك؟ فقالت: ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس؛ إنا نجد في الكنب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة، إلا سيعقبون بعدها عبرةً، وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه. ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا ** إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ

فَأُفٍّ لِدُنْيَا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ** تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ

ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع لا يردها، بل يضافعها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
ومن علاجها: أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم- وهو من الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع- أعظم من المصيبة في الحقيقة.
ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسيء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نَفْسهُ. وَإِذَا صبر واحتسب أقصى شيطانه، ورده خاسئًا، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عَنْ إخوانه، وعزَّاهم هُوَ قبل أن يعزوه. فهَذَا هُوَ الثبات والكمال الأعظم؛ لا لطم الخدود، وشق الجيوب والدُّعَاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور.
ومن علاجها: أن يعلم ما يعقبه الصبر والاحتساب- من اللذة والمسرة- أضعاف ما كَانَ يحصل لَهُ ببقاء ما أصيب به، لو بقي عَلَيْهِ. ويكفيه من ذَلِكَ بيت الحمد الَّذِي يبنى لَهُ فِي الْجَنَّة، على حمده لربه واسترجاعه. فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة؟ أَوْ مصيبة فوات بيت الحمد فِي جنة الخلد؟
وَفِي الترمذي مرفوعا: «يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كَانَتْ تقرض بالمقاريض فِي الدُّنْيَا، لما يرون من ثواب أَهْل البَلاء».
وقَالَ بَعْض السَّلَف: لولا مصائب الدُّنْيَا، لوردنا القيامة مفالَيْسَ.
وَعُوِّضْتَ أَجْرًا مِنْ فَقِيدٍ فَلا يَكُنْ ** فَقِيدُكَ لا يَأْتِي وَأَجْرُكَ يَذْهَبُ

ومن علاجها: أن يروح قَلْبهُ بروح رجَاءَ الخلف من الله، فإنه من كُلّ شَيْء عوض، إلا الله فما منه عوض. كما قِيْل:
لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فُقْدَ قَصْرٍ ** فَسِيحٍ مُنَيةٌ لِلسَّاكِتِينَا

وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةِ فَقْدُ دِينٍ ** يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِن كَافِرِينَا

آخر:
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ ** وَمَا مِنَ الله إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ

ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه لَهُ، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط. فحظك مَنْهَا ما أحدثته لَكَ، فاختر أما خَيْر الحظوظ، أَوْ شرها. فَإِنَّ أحدثت لَهُ سخطًا وكفرًا كتب فِي ديوان الهالكين، وإن أحدثت لَهُ جزعًا وتفريطًا فِي ترك واجب، أَوْ فِي فعل محرم كتب فِي ديوان الهالكين، وإن حدثت لَهُ شكاية وعدم صبر كتب فِي ديوان المغبونين.
وإن أحدثت لَهُ اعتراضًا على الله وقدحًا فِي حكمته فقَدْ قرع باب الزندقة أَوْ ولجه، وان أحدثت لَهُ صبرًا وثباتًا لله: كتب فِي ديوان الصابرين. وان أحدثت لَهُ الرِّضَا: كتب فِي ديوان الراضين. وان أحدثت لَهُ الحمد وَالشُّكْر: كتب فدى ديوان الشاكرين، وكَانَ تحت لواء الحمد مَعَ الحمَّادين، وإن أحدثت لَهُ محبةً واشتياقًا إِلَى لقاء ربه: كتب فِي ديوان المحبين المخلصين.
وَفِي مسند الإِمَام أحمد والترمذي- مِنْ حَدِيثِ محمود بن لبيد يرفعه: «إن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط». زَادَ أحمد: «ومن جزع فله الجزع».
ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فِي الجزع غايته فآخر أمره إِلَى صبر الاضطرار. وَهُوَ غيره محمود ولا مثاب.
قَالَ بَعْض الحكماء: العاقل يفعل فِي أول من المصيبة، ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام، سلا سُلُوَّ البهائم وَفِي الصحيح مرفوعًا: «الصبر عَنْدَ الصدمة الأولى». وقَالَ الأشعث بن قيس: إِنَّكَ إن صبرت إيمانًا واحتسابًا؛ وإلا سلوت سُلُوَّ البهائم.
ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية لَهُ موافقة ربه وإلهه، فيما أحبه ورضيه لَهُ، وان خاصية المحبة موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب، ثُمَّ سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقَدْ شهد على نَفْسهُ بكذبه، وتمقت إِلَى محبوبه.
وقَالَ أبو الدرداء: إن الله إِذَا قضى قضاء، أحب أن يرضى به. وكَانَ عمران ابن الحصين يَقُولُ فِي علته: أحبه إِلَيَّ أحبه إليه. وكَذَلِكَ قَالَ أَبُو العالية.
وَهَذَا دواء وعلاج لا يعمل إلا مَعَ المحبين، ولا يمكن كُلّ أحد أن يتعالج به..
ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومها: لذة تمتعه بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله لَهُ فَإِنْ ظهر لَهُ الرجحان، فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه، وإن آثر المرجوح من كُلّ وجه فليعلم أن مصيبته فِي عقله وقَلْبهُ ودينه، وأعظم من مصيبته التي أصيب بها فِي دنياه.
وَإِذَا تَصِبْكَ مُصِيبَة فَاصْبِرْ لَهَا ** عَظُمَتُ مُصِيبَةُ مُبْتَلَى لا يَصْبِرُ

ومن علاجها: أن يعلم أن الَّذِي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وأنه سُبْحَانَهُ لم يرسل إليه البَلاء ليهلكه ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عَنْهُ وإيمانه، وليسمَعَ تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور الْقَلْب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه.
قَالَ الشَّيْخ عبد القادر: يَا بني إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك: يَا بني القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة.
والمقصود: أن المصيبة كير الْعَبْد الَّذِي يسبك به حاصله، فَإِمَّا أن يخَرَجَ ذهبًا أحمر، وإما أن يخَرَجَ خبثًا كله. كما قِيْل:
سَبَكْبَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنًا ** فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيد

فَإِنَّ لم ينفعه هَذَا الكير فِي الدُّنْيَا فبين يديه الكير الأعظم. فإذا علم الْعَبْد أن إدخاله كير الدُّنْيَا ومسبكها خَيْر لَهُ من ذَلِكَ الكير والمسبك، وأنه لابد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عَلَيْهِ فِي الكير العاجل.
فلولا أنه سُبْحَانَهُ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أراد بعبد خيرًا سقاه دواء- من الابتلاء والامتحان- عَلَى قَدْرِ حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة؛ حَتَّى إِذَا هذبه وصفاه أهلَّه لأشرف مرا تب الدُّنْيَا- وهي عبوديته- وأرفع ثواب الآخِرَة، وَهُوَ رؤيته وقربه.
ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدُّنْيَا هِيَ بعينها حلاوة الآخِرَة، يقابلها الله سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ؛ وحلاوة الدُّنْيَا هِيَ بعينها مرارة الآخِرَة ولأن ينتقل من مرارة منقطعة، إِلَى حلاوة دائِمَّة خَيْر لَهُ من عكس ذَلِكَ.
فَإِنَّ خفى عَلَيْكَ هَذَا فَانْظُرْ إِلَى قول الصادق المصدوق: «حفت الْجَنَّة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات».
وَفِي هَذَا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرِّجَال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة، على الحلاوة الدائِمَّة التي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعة بحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد. فَإِنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإِيمَان ضعيفٌ، وسلطان الشهوة حاكم. فتولد مَعَ ذَلِكَ إيثار العاجلة، ورفض الآخِرَة.
وَهَذَا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الَّذِي يخرق حجب العاجلة، ويجاوزه إِلَى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخر.
فادع نفسك إِلَى ما أعد الله لأوليائه وأَهْل طاعته من النَّعِيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعد لأَهْل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب، والحسرات الدائِمَّة، ثُمَّ اختر أي القسمين أليق بك. و: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}، وكل أحد يصبو إِلَى ما يناسبه وما هُوَ الأولى به. ولا تستطل هَذَا العلاج فشدة الحاجة إليه- من الطبيب العليل- دعت إِلَى بسطه. وبِاللهِ التَّوْفِيق.
نُعَلِّلُ بِالدَّوَاءِ إِذَا مَرَضْنَا ** وَهَلْ يَشْفِِِِي مِنَ الْمَوْتِ الدَّوَاءُ

وَنَخْتَارُ الطَّبِيبَ وَهَلْ طَبِيبٌ ** يُؤخِّرُ مَا يُقَدِّمُهُ الِْقَضَاءُ

آخر:
اصْبِرْ عَلَى حُلْوِ الِْقَضَاءِ وَمُرِّهِ ** وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغْ أَمْرِهَ

فَالصَّدْرُ مَنْ يَلْقَى الْخُطُوبَ بِصَدْرِهِ ** وَبِصَبْرِهِ وَبِحَمْدِهِ وَبِشُكْرِهِ

الْحُرُّ سَيْفٌ وَالذُّنُوبُ لِصَفْوِهِ ** صَدَأ وَصَيْقَلُهُ نَوَائِبُ دَهْرِهِ

لَيْسَ الْحَوَادِثُ غَيْرَ أَعْمَالِ امْرِئٍ ** يُجْزَى بِهَا مِنْ خَيْرِهِ أَوْ شَرِّهِ

فَإِذَا أُصِبْتَ بِمَا أُصِبْتَ فَلا تَقُلْ ** أُوذِيتُ مِنْ زَيْدِ الزَّمَانِ وَعَمْرِهِ

وَاثْبُتْ فَكَمْ أَمْرٍ أَمَضَّكَ عُسْرُهُ ** لَيْلاً فَبَشَّرَكَ الصَّبَاحُ بِيُسْرِهِ

وَلَكُمْ عَلَى نَاسٍ أَتَى فَرَجُ الْفَتَى ** مِن سِرِّ غَيْبٍ لا يَمُرُّ بِفِكْرِهِ

فَاضْرَعْ إِلَى اللهِ الْكَرِيمِ وَلا تَسِلْ ** بَشَرًا فَلَيْسَ سِوَاهُ كَاشِفَ سِرِّهِ

وَأَعْجَبْ لِنَظْمِي وَالْهُمُومُ شَوَاغِلٌ ** يُلْهِينَ عَنْ نَظْمِ الْكَلامِ وَنَثْرِهِ

لا تَخْشَ مِنْ غَمٍّ كَغَيْمٍ عَارِضٍ ** فَلَسَوْفَ يُسْفِرُ عَنْ إِضَاءَةِ بَدْرِهِ

إِنْ تُمْسِ عَنْ عَبَّاسِ حَالِكَ رَاوِيًا ** فَكَأَنَّنِي بِكَ رَاوِيًا عَنْ بِشْرِهِ

وَلَقَدْ تَمُرُّ الْحَادِثَاتُ عَلَى الْفَتَى ** وَتَزُولُ حَتَّى مَا تَمُرُّ بِفِكْرِهِ

هَوِّنْ عَلَيْكَ فَرُبَّ أَمْرٍ هَائِلٍ ** دُفِعَتْ قُوَاهُ بِدَافِعٍ لَمْ تَدْرِهِ

وَلَرُبَّ لَيْلٍ بِالْهُمُومِ كَدُمَّلٍ ** صَابَرْتَهُ حَتَّى ظَفِرْتَ بِفَجْرِهِ

ثُمَّ الصَّلاةُ على النَّبِيّ وَآلِهِ ** مَعَ صَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لأَمْرِه

اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأَبْرَار وأسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ،، اللَّهُمَّ يَا من خلق الإِنْسَان فِي أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إِلَى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فَصْل فِي الخَوْفِ:

اعْلَمْ وَفَّقَنَا وَإِيَّاكَ لما يحبه ويرضاه أن الخوف عبارة عَنْ تألم الْقَلْب واحتراقه بسبب توقع مكروه فِي المستقبل وقِيْل الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام وقِيْل هرب الْقَلْب من حلول المكروه عَنْدَ استشعاره.
فالخوف لعام الْمُؤْمِنِينَ والخشية للعلماء العارفين والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين، وعَلَى قَدْرِ العلم بِاللهِ ومعرفة الْعَبْد بنفسه يكون الخوف والخشية كما قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلمكم بِاللهِ وأشدكم لَهُ خشية». وَفِي رواية: «خوفًا».
وَإِذَا أكملت المعرفة أثرت الخوف ففاض أثره على الْقَلْب، ثُمَّ ظهر على الْجَوَارِح، والصفات النحول والاصفرار والبُكَاء والغشي، وقَدْ يفضي إِلَى الموت.
وأما ظهور أثره على الْجَوَارِح فبكفها عَنْ المعاصي، وإلزامها الطاعات تلافيًا، واستدراكًا لما فرط، واستعدادًا للمستقبل.
ومن ثمرات الخوف أنه يقمَعَ الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل واللبن مكروهًا إِذَا علم أن فيه سُمًّا، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الْجَوَارِح، ويذل الْقَلْب، ويستكين ويفارقه الكبر والحسد والحقَدْ، ويصير مستوعبًا الهم لخوفه والنظر فِي خطر عاقبته.
فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون لَهُ شغل ‘لا الْمُرَاقَبَة، والمحاسبة والمجاهدة، والبخل فِي الأنفاس، واللحظات، أن يصرفها فيما لا فائدة فيه، ومؤاخذة النفس فِي الخطرات، والخطوات، والكلمَاتَ، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
ومقدمَاتَ الخوف أربع. الأولى: ذكر الذُّنُوب الكثيرة العظيمة التي سلفت فيما مضى وكثرة ذكر الخصوم الَّذِينَ مضوا وأَنْتَ مرتهن لم يتبين لَكَ الخلاص حَتَّى الآن. وَالثَّانِيَة: ذكر شدة العقوبة. والثالثة: ذكر قدرة الله عَلَيْكَ متى شَاءَ وكيف شَاءَ. والرابعة: ذكر ضعفك عَنْ احتمال العقوبة.
حَقِيق بِالتَّوَاضُعِ مَنْ يَمُوتُ ** وَيَكْفِي الْمَرْءُ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتُ

فَمَا لِلْمَرْءِ يُصْبِحَ ذَا هُمُومٍ ** وَحِرْصٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ النُّعُوتُ

فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عَنْ قَرِيبٍ ** إِلَى قَوْمٍ كَلامُهُمُ السُّكُوتُ

آخر:
النَّفْسُ تَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ ** أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيهَا

لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا ** إِلا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ بَانِيهَا

فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ ** وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا

آخر:
وَمَا مَنْ يَخَافُ الْمَوْتَ وَالنَّارَ آمِنُ ** وَلَكِنْ حَزِينُ مُوجَعُ الْقَلْبِ خَائِفُ

إِذَا عَنْ ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ ** وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ

ثُمَّ اعْلَمْ أن الخوف يحث على العلم، والْعَمَل، قَالَ أبو حفص: الخوف سوط الله، يقوم به الشاردين عَنْ بابه. وقَالَ: الخوف سراج فِي الْقَلْب، به يبصر ما فيه من الْخَيْر والشَّر، وكل أحد إِذَا خفته هربت منه إِلا الله عز وجل فإنك إِذَا خفته هربت إليه فالخائف هارب من ربه إِلَى ربه.
وقَالَ أبو سُلَيْمَانٌ: ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب. وقَالَ إبراهيم بن سفيان: إِذَا سكن الخوف الْقُلُوب أحرق مواضع الشهوات مِنْهَا وطرد الدُّنْيَا عَنْهَا. قَالَ فِي مختصر مناهج القاصدين: والخوف لَهُ إفراط وله اعتدال، وله قصور والمحمود من ذَلِكَ الاعتدال.
وهو بمنزلة السوط للبهيمة، فَإِنَّ الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عَنْ سوط ولَيْسَ المبالغة فِي الضرب محمودة، ولا المتقاصر عَنْ الخوف أيضا محمودًا، وَهُوَ كالَّذِي يخطر بالبال عَنْدَ سماع آية، أَوْ سبب هائل فيورث البُكَاء، فإذا غاب ذَلِكَ السبب عَنْ الحس رجع الْقَلْب إِلَى الغَفْلَة، فهو خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع، وَهُوَ كالقضيب الضعيف، الَّذِي يضرب به دابة قوية فلا يؤلمها ألمًا مبرحًا، فلا يسوقها إِلَى المقصد ولا يصلح لرياضتها.
وَهَذَا هُوَ الغالب على النَّاس كلهم إلا العارفين والْعُلَمَاء أعنِي الْعُلَمَاء بِاللهِ وبآياته وقَدْ عز وجودهم، وأما المرتسمون برسوم العلم فَإِنَّهُمْ أبعد النَّاس عَنْ الخوف، وهل الْعُلَمَاء حَقِيقَة يأخذون من الدُّنْيَا إلا بقدر البلاغ.
وأما القسم الأول وَهُوَ الخوف المفرط فهو كالَّذِي يقوى ويجاوز حد الاعتدال، حَتَّى يخَرَجَ إِلَى اليأس والقنوط، فهو أيضًا مذموم لأنه يمنع من الْعَمَل، وقَدْ يخَرَجَ إِلَى المرض والوله والموت، ولَيْسَ ذَلِكَ محمودًا.
وكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضِي إِلَى المراد المقصود منه، وما يقصر عَنْهُ أَوْ يجاوزه فهو مذموم وفائدة الخوف الحذر والورع والتقوى والمجاهدة والفكر والذكر والتعبد وسائر الأسباب التي توصل إِلَى الله تَعَالَى وكل ذَلِكَ يستدعى الحياة مَعَ صحة البدن وسلامة العقل فإذا قدح فِي ذَلِكَ شَيْء كَانَ مذمومًا وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.